كتب: أحمد حنفي
وتوافرت في الإسكندرية ـــ منذ عهدٍ مبكرٍـــ عبقرية المكان، فكانت القنطرة التي عبرت منها إلينا الثقافة اليونانية بكل إرثها الفلسفي والفني والعلمي وامتزج ذلك الإرث بالحكمة المصرية القديمة فتفاعلا في رقيٍّ شديدٍ وأنتجا حضارةً جديدةً تفرَّدت بها الإسكندرية عن سائر المدن المصرية واليونانية ما لبثت طويلاً لتختمر في عقول مفكريها وفلاسفتها وعلمائها وفنانيها حتى فاضت بنورها وبصيرتها فصارت البوابة التي صدَّرت العلوم والفنون ليس لبلاد اليونان فحسب ولكن للعالم بأسره.
إنَّ الإسكندرية بثقافتها الهيلينستية لتعدُّ أنموذجًا فارقًا وفريدًا بين حضارات العالم؛ فلم ينشأ بها صراعًا يذكر بين حضارة الوافد الفاتح وبين حضارة المقيم، لم يفرض اليونانيون ثقافتهم عنوةً ولم يرفض السكندريون الآخر، بل امتصَّا بعضهما ليعيدا تكوين الضمير الإنساني داخل أروقة مكتبة الإسكندرية، وكان للأدب ـــ والشعر خاصةً ـــ نصيبه الوافر من ذلك التكوين.
فعلى الرغم من معرفة اليونانيين بفن "الإبيجراما" كأحد فنون الشعر لديهم، إلا أنَّ ذلك الفن ارتبط باسم شاعر الإسكندرية العظيم "كاليماخوس" والذي أخلص لهذا الفن الشعري المكثف ساخرًا من شعراء الملاحم اليونانيين من أمثال "هوميروس".
ويؤكد "ثيوكريتس" على استقلالية الإسكندرية الثقافية ورؤيتها الجديدة التي تبثها في ضمير الإنسانية وذلك حين ثار على قواعد الوزن الشعري والتي كانت تقتضي وزنًا معينًا لكلِّ غرضٍ شعريٍّ، وآثر أن يستخدم الوزن السداسي في معظم قصائده الرعوية، وقد عرفت الساحة الشعرية السكندرية في عصرها الهيليني القصائد المطوَّلة ـــ الملاحم ـــ ولعلَّ أشهرها ملحمة "أبوللونيوس" الشهيرة "الأرجونوتيكا" أو "بحارة الأرجو"، "والتي يعتقد بعض النقاد أنها الأصل الذي خرج منه نصف الأدب الحديث، فليس القدر هو الذي يحرك الأحداث فيها كما كان الحال في ملاحم هوميروس، وإنما روح المغامرة، أي الإنسان" [1]
وهذا يدلُّ على مدى النضج الذي صدر منه "ثيوكريتس"؛ ذلك أنه رفض أن يكون الإنسان لعبةً بيد القدر يحركها كيفما يشاء لكنه رأى أنَّ الإنسان هو من يصنع مصيره أو على الأقل يتحمل مسئولية اختياراته.
هكذا كان شعراء الإسكندرية منذُ ألفيِّ عام، لم يكونوا مقلِّدين وإنما أعادوا إنتاج وتجديد الشعر اليوناني ومن ثَمَّ إعادة تصديره للتراث الإنساني من جديد، "فمن المعروف أنَّ الشعر السكندري القديم المكتوب باليونانية هو النموذج الذي حاكاه شعراء الرومان من أمثال هوراس وأوفيد" [2]
وإذا ما تجاوزنا تلك الحقبة بكلِّ زخمها وازدهارها وريادتها وقدمنا إلى الإسكندرية الإسلامية نلتمس شعراءها بين شوارعها الجميلة والتي مازالت محتفظة بتخطيط "دينوقراطيس" لها مع تناغم عجيب ببناياتها المتعددة ذات الطابع الإسلامي من دور وقصور وحمامات وبساتين وأحياءٍ جديدةٍ نشأت لتستوعب الوافدين من العرب الفاتحين من قبائل لخم وجذام والتي استوطنت - ومازالت - غرب الإسكندرية، ذلك التناغم لم تفسده العمارة الرومانية التي توسَّطت الحقبتين اليونانية والإسلامية، حتى أضحت شوارعها متحفًا مفتوحًا تقف منارتها - إحدى عجائب الدنيا - حارسًا على كلِّ ذلك وشاهدًا على مجدٍ يضرب بجذوره في الماضي.
ليكون موعدنا مع القرن السادس الهجري؛ فلم يكن مقدَّرًا للإسكندرية أن ينبغ بها شاعرٌ عربيٌّ من أبنائها ويذيع صيته ليملأ كلَّ أرجاء مصر قبل ذلك القرن، والذي بذلت الدولة الفاطمية فيه كلَّ غالٍ وثمينٍ من أجل بناء دولةٍ تنافس العباسيين في الترف والأبهة، يقول "جوستاف لوبون" في كتابه حضارة العرب: "يتصف عصر الفاطميين، الذي بلغت حضارة العرب فيه بمصر ذروة الرقي، بنضج الفنون وما تؤدي إليه الفنون من الصناعات، وبارت القاهرة بغداد في الفنون ... وزاد دخل خلفاء مصر على دخل خلفاء بغداد ... وكان خلفاء مصر يقفون معظم ذلك الدخل على أمور الترف وبناء القصور" [3]
وكان للإسكندرية نصيبها من ذلك الترف مما عمَّق تراثها المعماري من تشييدٍ للمساجد والمدارس والتي عملت بدورها على تعميق ثقافة أبنائها؛ إذ "كانت المساجد مراكز فكرية، فالجامع الجيوشي كان مركزًا هامًا من مراكز الفكر بالثغر، تصدَّر به أكبر العلماء لتدريس الفقه والقراءات والنحو وغير ذلك" [4]
وساعدت هذه البيئة العلمية النشطة في الإسكندرية على إقامة حركةٍ شعريةٍ بالثغر حيث "كانت بها آنذاك نهضة شعرية واسعة" [5]
وقد أشار د. شوقي ضيف إلى أنَّ الثقافة العربية الإسلامية هي ثقافة شعبية عامة تُلقى في المساجد، وكان للشعراء فيها حلقات أتاحت لشباب العامة المشاركة في الشعر وغير ذلك من العلوم. [6]
فساعدت هذه النهضة الثقافية على انتشار التعليم وظهور طبقة من العلماء والأدباء والمشتغلين بالفلسفة أعطت الإسكندرية قوتها الثقافية التي ساعدت على تشكيل وعي أبنائها [7] فلم يكن عجيبًا إذن أن نرى شاعرًا حدادًا مثل "ظافر الحداد السكندري" (ت:529ه) أمير شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية وحتى عصر النهضة بلا منازعٍ، والذي راح يتردد على مجالس الأدباء وحلقات العلماء "وأكبَّ الصبيُّ على حفظ الشعر وكانت له ملكة خصبة، سوَّت منه شاعرًا كان يلفت أقرانه، كما لفت كثيرين من شعراء الإسكندرية" [8]
ولم تشارك البيئة الثقافية المزدهرة في الإسكندرية بتكوين ثقافة ظافر فحسب بل ساهمت أيضًا في ذيوع صيته حيث كان والي الإسكندرية "ابن ظَفر" يفتح بابه لكلِّ النوابغ من الشعراء والكتَّاب، وبالرغم من ذلك فلم يدخل ظافر قصر الوالي في بادئ الأمر كشاعرٍ وإنما كحدادٍ استطاعت بديهته وحسن ارتجاله أن تخرجه من القصر شاعرًا ذائع الصيت. [9]
والإسكندرية تتغلغل داخل نسيج وتكوين ظافر الحداد، وحنينه إليها لا ينقطع، فقد اضطرته مطالب العيش والشهرة لأن يترك الإسكندرية بلده ويستقر بالفسطاط إلى جوار ممدوحه الأشهر "الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي" وكان يظن أن طلب الشهرة والجاه والمال سينسيه وطنه فما جنى سوى العذاب والألم والحسرة من فراق بلده رغم كل ما حقق، فراح يبث نداءه لكلِّ ما في الإسكندرية في أشعاره ليسلي النفس بذكريات الصبا، يقول مخاطبًا خِلَّيه: [10]
أخلَّاي بالثغر دام الفراقُ ولازمني أسفٌ واشتياقُ
تصبَّرت عنكم على حالتينِ أسى يتلظَّى ودمعٌ يراقُ
ويستبدُّ به الشوق للعودة لشاطئ الإسكندرية، فيخاطبه قائلاً: [11]
يا ساحل الثغر كم أنأى وأغتربُ أما إليك مدى الأيَّام مُنقلبُ
إنَّ هذا الـنَّأي وذاك الاغتراب هما ما دفعاه لتذكر عشيَّاته على رمال الثغر: [12]
أكثبان رمل الظاهريَّـة هل إلى عشيَّاتك المستحسنات سبيلُ
ها هو البحر يتجلَّى مسيطرًا على ذاكرته، فتذكره للإسكندرية مرتبطٌ ببحرها الساحر سمتها المائزة على مرِّ العصورِ، وربما أطلَّت الإسكندرية بعمائرها ومساجدها ومنارتها في إحدى مقطوعاته مستثيرة لمخيلته الإبداعية محفزة خياله المنتج، يقول: [13]
تضئ بها المساجد فهى تزهو بياضًا مثل ما تزهو الكعابُ
تجاورها منارتها .. وفيها وفي فانوسها عجبٌ عجابُ
فتاةٌ غادةٌ بإزاء شيخٍ قصيرٍ، طال بينهما العتابُ
سقى الله السواري بالسواري ودرَّت في مذاهبها الذهابُ
فهذه المساجد البيضاء الزاهية بمآذنها تشبه الفتيات الكعاب الحسان وكأنَّ المئذنة شيخٌ قصيرٌ تعاتبه الغادة الحسناء/ منارة الإسكندرية، وهي صورةٌ مفعمةٌ بالحيوية والإيحاء فقد فطن ظافر الحداد منذ تسعة قرون إلى ذلك الأثر السحري لمدينتنا الإسكندرية التي تمنح الحياة لكلِّ ما عليها وتدثره بنبضها المستمد من موج البحر.
إنَّ ظافرًا في أبياته السابقة يتخلى عن صوره التقريرية المسيطرة على معظم قصائد ديوانه، ويستبدلها بتلك الصورة الإيحائية الدافئة والتي عكست ما يدور بقلبه، فما هو غير ذلك الشيخ الذي تعاتبه غادته الحسناء/ الإسكندرية لطول بعده عنها. إنَّ غربته عن وطنه كانت معينًا متفجرًا لطاقاته الإبداعية .. إنهما يتعاتبان .. ولسان حالهما يقول .. متى نلتقي؟
ويرتبط البحر عند ظافر بموقف آخر، ألا وهو تذكر أيامه مع أصدقائه حتى لتعد الليلة الواحدة بخليج الإسكندرية بليالي العمر كله، وما كان يدور بينه وبين رفاقه من حديث ترق له الصخور طربًا، يقول: [14]
فيا دهرُ ألَّا كان ليليَ كلهُ كليلةِ شرقيِّ الخليج من الثغرِ
فيا ليلة ماذا مضى تحت جُنحِها من الــمُلَحِ اللاتي تجلُّ عن القدرِ
حديثًا لو انَّ الصخرَ باشر بعضَه لأرقصَ من إطرابهِ جَلمدَ الصَّخرِ
وظلَّ ظافر الحداد ينسج على ذات المنوال لم يترك شيئًا في الإسكندرية إلا وقاله "حتى لنشعر بأنَّ الإسكندرية قد صارت عنده لوحة من قلب الطبيعة بكامل مفرداتها وعناصرها وجزئياتها وهو يعزف على هذا النغم بكلِّ أدواته وألفاظه وصوره وموسيقاه، عاكسًا ولهه اللا محدود لهذا الثغر الآمن" [15]
وكان شعراء الإسكندرية في العصر الإسلامي والذين نبغوا في الشعر كثيرين، منهم "ابن قلاقس" الشاعر الرحالة الذي عشق البحر وطوَّف في أرجائه شمالاً وجنوبًا ما بين صقلية واليمن واتصل بالخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين وعندما بارت سوق الشعر بمصر ارتحل خارجها وقضى نحبه وهو مازال في الخامسة والثلاثين تاركًا ديوانًا بثَّ في أرجائه حديثه عن الإسكندرية والبحر ومنارتها.
كما مكث بها من غير أبنائها الكثيرون فمنهم "أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي" ـــ صاحب الرسالة المصرية ـــ، والإمام البوصيري ـــ صاحب البردة عين عيون المديح النبوي ـــ وبها توفي ودُفن، و"تقيَّة الصورية"، وغيرهم العديد والعديد، منهم مَن هم مِن أبنائها ومنهم مَن وفد عليها واستقرَّ بها حينًا وخلَّف لنا شعرًا ينتمي إليها؛ فشعر الإسكندرية "يتجاوز شعراءها الذين ينتمون لها إلى غيرهم من الشعراء الذين تغنوا بالإسكندرية دون أن يكونوا سكندريين، وحتى دون أن يكونوا مصريين" [16]
وهذا الحد للشعر السكندري ـــ تراث الإسكندرية الشعري ـــ والذي وضعه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي مقبولٌ إلى درجةٍ بعيدة؛ فالإسكندرية كانت دومًا محط أنظار الشعراء يأتوها للاستجمام أو الاستشفاء أو طلبًا للعزلة عن واقعهم للتواصل مع أعمق نقطةٍ بوجدانهم بحثًا عن حالةٍ إبداعية ذات طابعٍ مستقل، فليس من المتصور بمكانٍ ألَّا نضم بيتي شوقي الآتيين للشعر السكندري ..
إسكندريــــــةُ يا عروس الماءِ وخميلة الحكماء والشعراءِ
نشأت بشاطئك الفنون جميلةٌ وترعرعت بسمائك الزهراءِ
ويقول في موضعٍ آخر عن شاطئها:
شاطئٌ مثل رُقعةِ الخلدِ حُسنًا وأديمِ الشبابِ طيبًا وبِشرا
وها هو حيّ المكس ـــ بغرب الإسكندرية ـــ شاهد على أيامٍ قضاها شوقي ـــ أمير الشعراء ـــ على شاطئه متأملاً، ينهم من سحره وزفيره، الأمر نفسه الذي حذاه مطران خليل مطران أحد أهم رموز الرومانسية العربية.
يردف حجازي بقوله:
"الإسكندرية لم تكن لكلِّ شعرائها وطنًا أو مسقط رأس لكنها كانت بالنسبة لهم حلمًا أو فكرة" [17]
وما كاد يطلُّ علينا العصر الحديث حتى ازدادت أعداد شعراء الإسكندرية وازدانت بهم وأخذ التراث الشعري السكندري في النمو سواء كان شعرًا عربيًا أم زجلاً أم شعرًا مكتوبًا بلغاتٍ أخرى كاليونانية والإيطالية.
وبمناسبة الزجل فإنه ارتبط باسمينِ سكندريينِ إذا ما ذُكر فن الزجل ذُكرا؛ "عبد الله النديم" (ت:1896) ـــ شاعر وخطيب الثورة العرابية ـــ والمولود بحيّ كفر عشري بغرب الإسكندرية، و"محمود بيرم التونسي" (ت:1961 ) المولود بحيّ السيَّالة ببحري، وهما أشهر من أن يعرَّفا، إلَّا أنَّ لبيرم التونسي قصيدة شهيرة لا تخلو من خفة ظل السكندري وهي قصيدته "المجلس البلدي" والتي تطايرت في الآفاق حين نشرها لأول مرةٍ بجريدة "الأهالي" السكندرية بدون توقيعٍ "فما لبثت أن انتشرت في أنحاء المدينة وحفظها الناس متفكِّهين، ومطلعها:
يا بائع الفجلِ بالمليم واحدةً كم للعيالِ وكم للمجلس البلدي ؟" [18]
فليس شعر الإسكندرية هو الذي يصف شوارعها وبحرها وأهلها فحسب، بل هو ذلك الشعر الذي يغوص في مشكلاتها أيضًا، ويشاطرها أتراحها قبل أفراحها.
وإذا ما انتقلنا لشاعرٍ آخر وفد إليها من اللاذقية مراهقًا لم يتجاوز السبعة عشر عامًا ولزمها مدَّةً زادت عن الأربعين عامًا ودُفن بها فإننا قطعًا نتحدَّثُ عن "خليل شيبوب" (ت:1951) الأخ الأكبر للكاتب "صدِّيق شيبوب" المتوفي بالإسكندرية أيضًا عام 1965.
وانطبع "خليل شيبوب" بالطابع السكندريِّ الذي عمَّق وجدانه وجعل عبارته أكثر موسيقيَّة من عبارة مطران ــ أستاذه وصديقه [19]
ويُعدُّ "شيبوب" حلقةً هامةً من حلقات الشعر السكندري في العصر الحديث؛ ذلك أنَّه أفاد من القديم سيما من شعر المتنبي وأبي تمَّام والبحتري وتحمَّس للجديد الذي أتى به مطران متأثرًا بالشعر الأوروبي، خاصةً وأنَّ "شيبوب" كان مُطَّلعًا جيدًا على الأدبين اللاتيني ـــ الفرنسي منه على وجه الخصوص ـــ والسكسوني "واستطاع أن يُلبس الفكرة الغربية رداءً عربيًا فلا تجد في الرداء عيبًا ولا في المرتدي غرابةً" [20]
وله في الإسكندرية: [21]
خُطَّابُ حُسنكِ يا إسكندريةُ ما زالوا وما برحوا يوم الحفاظ همُ
توحَّدوا فيك حُبًَّا إنَّ طابعَهم إسكندريٌّ فلا عربٌ ولا عجمُ
والحسنُ مازال فردًا فيك جوهره وجوهر الحُسنِ فردٌ ليس ينقسمُ
ولأنَّ "شيبوب" من هؤلاء الخطَّابِ فقد منح نفسه الطابعَ السكندريَّ جاعلاً هويته الشامية في مرتبةٍ لاحقةٍ عليها، ومثَّل "شيبوب" همزة الوصل بين ما هو أصيل وما هو حداثي مما يجعلنا نعدَّه مفصلاً حيويًا من مفاصل الشعر السكندري الذي كان ـــ ومازال ـــ زخِمًا بعدة حضارات وعدة لغات وعدة عرقيات تتضافر جميعها لتنتج شعرًا يتسم بطبائعه المغايرة المتسق مع الطبيعة الكوزموبوليتانية للإسكندرية.
وبغرب الإسكندرية ــ تحديدًا بحيِّ المكس ــ قِبلة الشعراء وقتها، وُلِدَ "عتمان حلمي" (1894 – 1962) قبل أن ينتقل إلى حيِّ كفر عشري ليقضي فيه بقيَّة حياته، ولم يحز شهرةً واسعةً لكنه كان من أهم شعراء الإسكندرية في الفترة ما بين ثلاثينيات وخمسينات القرن المنصرم، وكان مؤسس جماعة "شعراء الشلال" وشارك في تأسيس جماعة "نشر الثقافة السكندرية" والتي ظلَّ بها حتى وفاته ما بين عضوًا عاملاً ورئيسًا ومحاضرًا وشاعرًا.
لم ينس "عتمان حلمي" الحيَّ الذي ولِد به ولا ما تركه في نفسه من براءةٍ ومرحٍ مستمدان من انطلاق البحر وتدفق أمواجه، يقول: [22]
في المكسِ في ظلالها جلسنا ونحن أطفالٌ بكلِّ مغنى
نجهلُ ما الدنيا، وما علمنا من أمرها غير السرور يُجنى
نطربُ من لا شئ إن طربنا ونملأُ الجوَّ إذا ضحكنا
وللمدينة الشاعرة أسبقيتها في فنونٍ أُخرى كالمسرح والسينما والصحافة، الأمر الذي انطبع على أدبائها ومنهم "عتمان حلمي" الذي ألَّف ست مسرحياتٍ مزج فيهنَّ بين الشعر والنثر لم تُطبع منها في حياته سوى مسرحية "الظاهر برقوق" وذلك في العام الذي توفِّى فيه.
وعلاقة الشاعر السكندريِّ بالبحر علاقة صداقةٍ قديمةٍ تنشأ منذ الوهلة التي يتعرفان فيها على بعضهما حتى يستحيل البحر مستودعًا لأسرار الشاعر ومعزيًا له.
يقول "عبد الحميد السنوسي" ــ أحد شعراء جماعة الشلال: [23]
وقفتُ حيالَ اليمِ وقفةَ ثائرِ له في ترانيم العباب عزاءُ
أُعالج همًّا بين جنبيِّ ثاويًا وليس لمقروحِ الفؤادِ دواءُ
ولا مانع أن يستعير الشاعر من البحر بعض مفردات بيئته ــ كنتيجةٍ مباشرةٍ لتلك العلاقة الحميمة ــ بل تستحيل الحياة بحرًا والشاعر سفينة تمخر فيها، يقول "السنوسي": [24]
أعيش كأنِّي في الحياةِ سفينةٌ تكالبها الأمواجُ واليمُّ زاخــــــــــرُ
أئنُّ كـــما أَنَّ الجريحُ من الصَّدى فتهزأُ بي الأيَّامُ وهْي ثوائـرُ
والإسكندريةُ غنيةٌ بأدبائها أثَّرت فيهم ــ ولـمَّا تزل ــ ونراها مبثوثةً في كتاباتهم شعرًا ونثرًا تحتضن أحرفهم وتحنو عليهم، فتلك الحقبة التي عاش فيها "بيرم" و"شيبوب" و"حلمي" و"السنوسي" شهدت الجم الغفير من الشعراء المتميزين أمثال "نقولا فياض" (ت:1959) – "وردة اليازجي" (ت:1924) – "عبد الرحمن شكري" (ت:1958) – "زكريا جزارين" (ت:1955) – "حسن فهمي" (ت:1930) – "محمد غالب" (ت:1950) – "فخري أبو السعود" (ت:1940) – "عبد اللطيف النشار" – "محمد مفيد الشوباشي" – "أحمد راسم" (ت:1958) – "منيرة توفيق" (ت:1965).
كذلك العديد من الشعراء غير العرب الذين تنتمي أشعارهم لتراث الإسكندرية الشعري، نذكر "قنسطنطين كفافيس" الشاعر اليوناني العالمي ـــ "أونجاريتي" الأب الشرعي للشعر الإيطالي الحديث ـــ "مارينيتي" رائد المدرسة المستقبلية في الشعر والنثر ـــ "راؤول ولكنسون" ـــ "هنري تويل" ـــ "ألك سكوفي" ـــ "رنيه تاسو" .. وغيرهم العديد.
الهوامش
[1] شعر الإسكندرية وشعراؤها، أحمد عبد المعطي حجازي، مقال نشر بجريدة الأهرام – العدد 43248 بتاريخ (الأربعاء 25 من ربيع الأول 1426 ه – 4 مايو 2005) السنة 129
[2] السابق
[3] حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر ص219، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000
[4] الحركة الفكرية والأدبية في الإسكندرية في القرن السادس الهجري، د. فوزي محمد أمين ص45، دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية 2004
[5] عصر الدول والإمارات (مصر)، د. شوقي ضيف ص251، دار المعارف، ط الثانية
[6] السابق، راجع ص251
[7] ظافر الحداد ـــ أمير شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية، أحمد محمد حنفي، بحث مخطوط في انتظار الطبع
[8] عصر الدول والإمارات (مصر)، د. شوقي ضيف ص251
[9] راجع قصة ظافر الحداد مع (ابن ظَفر) والي الإسكندرية كاملةً في:
وفيات الأعيان، لابن خلِّكان ج2 ص542،543 & شذرات الذهب، لابن العماد ج4 ص92،93 & بدائع البدائه، لعلي بن ظافر الأزدي ص385،386
[10] ديوان ظافر الحداد، تحقيق: د. حسين نصار، مكتبة مصر 1969 ص238
[11] السابق ص31
[12] السابق ص251
[13] السابق ص26
[14] السابق ص147
[15] شعر الطبيعة في مصر في القرن السادس الهجري، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراة في الآداب من الطالب/ بهاء عبد الفتاح علي حسب الله، المدرس المساعد بكلية الآداب – جامعة حلوان، 2001، ص197،198
[16] شعر الإسكندرية وشعراؤها، أحمد عبد المعطي حجازي
[17] السابق
[18] أعلام من الإسكندرية، نقولا يوسف ج2 ص339 – الهيئة العامة لقصور الثقافة 2001
[19] راجع كتاب "إسماعيل أدهم" عن "خليل مطران"
[20] أعلام الإسكندرية، نقولا يوسف ج2 ص356
[21] السابق ص357
[22] السابق ص359
[23] السابق ص365
[24] السابق ص366
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق